فصل: (سورة الأنعام: الآيات 133- 134)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتحقيق الفعل بـ {قد} للتّنبيه على أنّ خسرانهم أمر ثابت، فيفيد التّحقيق التّعجيب منهم كيف عَمُوا عمَّا هم فيه من خسرانهم.
وعن سعيد بن جبير قال ابن عبّاس: إذا سرّك أن تعلم جهلَ العرب فاقرأ ما فوق الثّلاثين ومائة من سورة الأنعام: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفاهًا بغير علم} إلى {وما كانوا مهتدين} أي من قوله تعالى: {وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا} [الأنعام: 136] وجعلها فوق والثّلاثين ومائة تقريبًا، وهي في العدّ السادسة والثلاثون ومائة.
ووصف فعلهم بالخسران لأنّ حقيقة الخسران نقصان مال التّاجر، والتّاجر قاصد الرّبح وهو الزّيادة، فإذا خسر فقد باء بعكس ما عَمِل لأجلِه (ولذلك كثر في القرآن استعارة الخسران لعمل الّذين يعملون طلبًا لمرضاة الله وثوابه فيقعون في غضبه وعقابه، لأنَّهم اتّعبوا أنفسهم فحصلوا عكس ما تعبوا لأجله) ذلك أنّ هؤلاء الّذين قتلوا أولادهم قد طلبوا نفع أنفسهم بالتخلّص من أضرارٍ في الدّنيا مُحْتَمَلٍ لحَاقُها بهم من جراء بَناتهم، فوقعوا في أضرار محقّقة في الدّنيا وفي الآخرة، فإنّ النّسل نعمة من الله على الوالدين يأنسون به ويجدونه لكفاية مهمّاتهم، ونعمة على القبيلة تكثر وتعتزّ، وعلى العالَم كلّه بكثرة من يعمره وبما ينتفع به النّاس من مواهب النّسل وصنائعه، ونعمة على النّسل نفسِه بما يناله من نعيم الحياة وملذاتها.
ولتلك الفوائد اقتضت حكمة الله إيجاد نظام التّناسل، حفظًا للنّوع، وتعميرًا للعالم، وإظهارًا لما في الإنسان من مواهبَ تنفعه وتنفع قومه، على ما في عملهم من اعتداء على حقّ البنت الّذي جعله الله لها وهو حقّ الحياة إلى انقضاء الأجل المقدّر لها وهو حقّ فطري لا يملكه الأب فهو ظلم بيّن لرجاء صلاح لغير المظلوم ولا يُضَرّ بأحد ليَنتفع غيره.
فلما قتل بعض العرب بناتِهم بالوأْد كانوا قد عطّلوا مصالحَ عظيمة محقّقة، وارتكبوا به أضرارًا حاصلة، من حيث أرادوا التخلّص من أضرار طفيفة غير محقّقة الوقوع، فلا جرم أن كانوا في فعلهم كالتّاجر الّذي أراد الرّبح فباء بضياع أصل ماله، ولأجل ذلك سمَّى الله فعلهم: سفهًا، لأنّ السّفه هو خفّة العقل واضطرابه، وفعلهم ذلك سفه محض، وأيُّ سفه أعظم من إضاعة مصالح جمّة وارتكاب أضرار عظيمة وجناية شنيعة، لأجل التخلّص من أضرار طفيفة قد تحصُل وقد لا تحصل.
وتعريف المسند إليه بالموصولية للإيماء إلى أنّ الصّلة علّة في الخبر فإنّ خسرانهم مسبّب عن قتل أولادهم.
وقوله: {سفهًا} منصوب على المفعول المطلق المبين لنوع القتل: أنّه قتلُ سفه لا رأي لصاحبه، بخلاف قتل العَدوّ وقتْل القاتل، ويجوز أن ينتصب على الحال من {الذين قتلوا}، وصفوا بالمصدر لأنّهم سفهاءُ بالغون أقصى السفه.
والباء في قوله: {بغير علم} للملابسة، وهي في موضع الحال إمَّا منْ {سفهًا} فتكون حالًا مؤكّدة، إذ السفه لا يكون إلاّ بغير علم، وإمَّا من فاعل {قتلوا}، فإنَّهم لمّا فعلوا القتل كانوا جاهلين بسفاهتهم وبشناعة فعلهم وبعاقبة ما قدّروا حصوله لهم من الضرّ، إذ قد يحصل خلاف ما قدّروه ولو كانوا يزنون المصالح والمفاسد لما أقدموا على فعلتهم الفظيعة.
والمقصود من الإخبار عن كونه بغير علم، بعد الإخبار عنه بأنّه سفَه.
التّنبيه على أنَّهم فعلوا ذلك ظنّا منهم أنَّهم أصابوا فيما فعلوا، وأنَّهم علموا كيف يَرأبُون ما في العالم من المفاسد، وينظمون حياتهم أحسن نظام، وهم في ذلك مغرورون بأنفسهم، وجاهلون بأنَّهم يجهلون {الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صُنعا} [الكهف: 104].
وتقدّم الكلام على الوأد آنفًا، ويأتي في سورة الإسراء عند قوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} [الإسراء: 31].
وقرأ الجمهور: {قَتَلوا أولادهم} بتخفيف التّاء وقرأه ابن عامر بتشديد التّاء لأنّه قتْل بشدّة، وليست قراءة الجمهور مفيتة هذا المعنى، لأنّ تسليط فعل القتل على الأولاد يفيد أنَّه قتل فظيع.
وقوله: {وحرموا ما رزقهم الله} نَعَى عليهم خسرانهم في أن حرّموا على أنفسهم بعض ما رزقهم الله، فحُرِموا الانتفاع به، وحَرَموا النّاس الانتفاع به، وهذا شامل لجميع المشركين، بخلاف الّذين قتلوا أولادهم.
والموصول الّذي يراد به الجماعة يصحّ في العطف على صلته أن تكون الجمل المتعاطفة مع الصّلة موزّعة على طوائف تلك الجماعة كقوله تعالى: {إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النّبيين بغير حقّ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من النّاس فبشّرهم بعذاب أليم} [آل عمران: 21].
وانتصب {افتراء} على المفعول المطلق ل {حرّموا}: لبيان نوع التّحريم بأنَّهم نسبوه لله كذبًا.
وجملة {قد ضلوا} استئناف ابتدائي لزيادة النّداء على تحقّق ضلالهم.
والضّلال: خطأ الطّريق الموصِّل إلى المقصود، فهم راموا البلوغ إلى مصالح دنيوية، والتّقرب إلى الله وإلى شركائهم، فوقعوا في المفاسد العظيمة، وأبعدهم الله بذنوبهم، فلذلك كانوا كمن رام الوصول فسلك طريقًا آخر.
وعَطْف {وما كانوا مهتدين} على {قد ضلوا} لقصد التّأكيد لمضمون جملة {ضلوا} لأنّ مضمون هذه الجملة ينفي ضدّ الجملة الأولى فتؤول إلى تقرير معناها.
والعرب إذا أكّدوا بمثل هذا قد يأتون به غير معطوف نظرًا لمآل مُفاد الجملتين، وأنَّهما باعتباره بمعنى واحد، وذلك حقّ التّأكيد كما في قوله تعالى: {أموات غيرُ أحياء} [النحل: 21] وقوله: {فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير} [المدثر: 9، 10].
وقول الأعشى:
إمَّا تَرَيْنَا حُفَاة لا نِعَالَ لنا

وقد يأتون به بالعطف وهو عطف صوري لأنَّه اعتداد بأنّ مفهوم الجملتين مختلف، ولا اعتداد بمآلهما كما في قوله تعالى: {وأضلّ فرعون قومَه وما هَدى} [طه: 79] وقوله: {قد ضللتُ إذنْ وما أنا من المهتدين} [الأنعام: 56] وقول المتنبّي:
والبَيْنُ جارَ على ضُعفي وما عَدَلا

وكذلك جاء في هذه الآية ليفيد، بالعطف، أنَّهما خبران عن مساويهم.
و(كان) هنا في حكم الزائدة: لأنَّها زائدة معنى، وإن كانت عاملة، والمراد: وما هم بمهتدين، فزيادة (كان) هنا لتحقيق النّفي مثلَ موقعها مع لام الجحود، وليس المراد أنَّهم ما كانوا مهتدين قبل أن يقتلوا أولادهم ويُحرّموا ما رزقهم الله، لأنّ هذا لا يتعلّق به غرض بليغ. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة الأنعام: آية 128]

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ}
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} منصوب بمحذوف، أي واذكر يوم نحشرهم، أو ويوم نحشرهم قلنا {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ} أو ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان مالا يوصف لفظاعته، والضمير لمن يحشر من الثقلين وغيرهم، والجن هم الشياطين {قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} أضللتم منهم كثيرًا أو جعلتموهم أتباعكم فحشر معكم منهم الجم الغفير، كما تقول: استكثر الأمير من الجنود، واستكثر فلان من الأشياع {وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ} الذين أطاعوهم واستمعوا إلى وسوستهم {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ} أي انتفع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم، وقيل استمتاع الإنس بالجن ما في قوله: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ} وأن الرجل كان إذا نزل واديًا وخاف قال: أعوذ بربّ هذا الوادي، يعنى به كبير الجن. واستمتاع الجن بالإنس: اعترف الإنس لهم بأنهم يقدرون على الدفع عنهم وإجارتهم لهم {وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا} يعنون يوم البعث. وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام لربهم وتحسر على حالهم {خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} أي يخلدون في عذاب النار الأبد كله، إلا ما شاء اللّه، إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النّار إلى عذاب الزمهرير، فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم. أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه.
أهلكنى اللّه إن نفست عنك إلا إذا شئت، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد، فيكون قوله: إلا إذا شئت، من أشد الوعيد، مع تهكم بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} لا يفعل شيئًا إلا بموجب الحكمة عَلِيمٌ بأن الكفار يستوجبون عذاب الأبد.

.[سورة الأنعام: آية 129]

{وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)}
{نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضًا كما فعل الشياطين وغواة الإنس، أو يجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة وقرناءهم كما كانوا في الدنيا {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} بسبب ما كسبوا من الكفر والمعاصي.

.[سورة الأنعام: آية 130]

{يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)}
يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}.
واختلف في أن الجن هل بعث إليهم رسل منهم، فتعلق بعضهم بظاهر الآية ولم يفرق بين مكلفين ومكلفين أن يبعث إليهم رسول من جنسهم، لأنهم به آنس وله آلف. وقال آخرون: الرسل من الإنس خاصة، وإنما قيل رسل منكم لأنه لما جمع الثقلان في الخطاب صحَّ ذلك وإن كان من أحدهما، كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} وقيل: أراد رسل الرسل من الجنّ إليهم، كقوله تعالى: {وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} وعن الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم يبعثون إلى الإنس، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن {قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا} حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} لأن الهمزة الداخلة على نفى إتيان الرسل للإنكار، فكان تقريرًا لهم. وقولهم: {شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا} إقرار منهم بأن حجة اللّه لازمة لهم، وأنهم محجوجون بها. فإن قلت: ما لهم مقرّين في هذه الآية جاحدين في قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} قلت: تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرّون في بعضها، ويجحدون في بعضها أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم. فإن قلت: لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية: ذمّ لهم، وتخطئة لرأيهم، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه وإنما قال ذلك تحذيرًا للسامعين من مثل حالهم.

.[سورة الأنعام: الآيات 131- 132]

{ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)}
{ذلِكَ} إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة، وهو خبر مبتدإ محذوف: أي الأمر ذلك. و{أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى} تعليل، أي الأمر ما قصصناه عليك لانتفاء كون ربك مهلك القرى بظلم، على أن أن هي التي تنصب الأفعال. ويجوز أن تكون مخففة من الثقيلة، على معنى: لأن الشأن والحديث لم يكن ربك مهلك القرى بظلم. ولك أن تجعله بدلا من ذلك، كقوله: {وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ}، {بِظُلْمٍ} بسبب ظلم قدموا عليه. أو ظالما، على أنه لو أهلكهم وهم غافلون لم ينبهوا برسول وكتاب، لكان ظلماء وهو متعال عن الظلم وعن كل قبيح {وَلِكُلٍّ} من المكلفين {دَرَجاتٌ} منازل {مِمَّا عَمِلُوا} من جزاء أعمالهم {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} بساه عنه يخفى عليه مقاديره وأحواله وما يستحق عليه من الأجر.

.[سورة الأنعام: الآيات 133- 134]

{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)}
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} عن عباده وعن عبادتهم {ذُو الرَّحْمَةِ} يترحم عليهم بالتكليف ليعرّضهم المنافع الدائمة {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيها العصاة {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ} من الخلق المطيع {كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام.

.[سورة الأنعام: آية 135]

{قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)}
المكانة تكون مصدرًا يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن. وبمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة. وقوله: {اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} يحتمل: اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم. أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله: على مكانتك يا فلان، أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه {إِنِّي عامِلٌ} أي عامل على مكانتى التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي، فإنى ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أينا تكون له العاقبة المحمودة. وطريقة هذا الأمر طريقة قوله: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} وهي التخلية، والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتى منه إلا الشر، فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه. فإن قلت: ما موضع {مَنْ}؟ قلت الرفع إذا كان بمعنى أي وعلق عنه فعل العلم. أو النصب إذا كان بمعنى الذي و{عاقِبَةُ الدَّارِ} العاقبة الحسنى التي خلق اللّه تعالى هذه الدار لها. وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك، فيه إنصاف في المقال وأدب حسن، مع تضمن شدّة الوعيد، والوثوق بأنّ المنذر محق والمنذر مبطل.